هل تحققت نبؤات الكتاب التي كان يصعب تصديقها؟
ثانيًا: مدينة بابل:
كانت مدينة بابل سيدة المدائن يقسمها نهر الفرات، وتعتبر حلقة الوصل والمركز التجاري الهام بين الشرق والغرب، بلغت مساحتها 196 ميلًا مربعًا ومحيطها 56 ميلًا، ويحيط بها سوران عظيمان يبلغ ارتفاع السور الخارجي مائة مترًا وعرضه نحو 24 مترًا يكفى لسير ست مركبات حربية متجاورة وعمق أساساته اثني عشر مترًا، وعلى السور 250 برجًا للمراقبة، وبه مائة بوابة من خشب الأرز المغشى بالنحاس اللامع، وسورها الداخلى مبنى بالقوالب الملَّونة التي تمثل مناظر لصيد النمور والأسود، واشتهرت بابل بحدائقها المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وتقدمت بابل في العلوم فاخترعت الألف باء للكتابة، وتقدمت في علوم الحساب والهندسة والفلك والفن والعمارة فشيدت أعظم المباني من الطين وأيضا من الحجارة ومن عظمتها خشى هيرودوت Herodotus أن يصفها لئلا يكذّبه الناس، ورغم هذه العظمة فقد تنبأ عنها إشعياء وإرميا بالخراب الأبدي في وصف تفصيلي للغاية ويمكن تتبع النبؤات كالآتي:
1- لم ينس الرب ما فعله نبوخذ نصر إذ خَّرب مدينة أورشليم وسلب الآنية المقدسة وخَّرب الهيكل بالإضافة إلى شرور بابل الأخرى، ولذلك جاءت النبؤة بمعاقبة بابل على شرها " وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب" (ار 51: 24) وتوعدها الله قائلًا "فلو صعدت بابل إلى السماوات ولو حصَّنت علياء عزها فمن عندي يأتي عليها الناهبون يقول الرب" (ار 51:53).
2- حدَّد أشعياء بأن الخراب سيحل ببابل على يد مملكة فارس ومادي فتنبأ قائلًا " قد أعلنت لي رؤيا قاسية الناهب ناهبًا والمُخرِب مخربًا. اصعدي يا عيلام. حاصري يا مادي" (اش 21: 2) فجاءت نبؤة إشعياء على بابل كضرب من الخيال.
3- حدَّد أشعياء اسم الملك "كورش" الذي سيكتسح بابل وسيٌصرِح ببناء أورشليم وتجديد الهيكل "القائل عن كورش راعى فكل مسَّرتي يتمم ويقول عن أورشليم ستٌبنى والهيكل ستؤسَّس" (اش 44: 28).
4- يصف هيرودتس حصار المدينة فيقول "وهكذا زحف الماديون والفارسيون على بابل بزعامة كورش وعندما طاف كورش وكبار قواده حول المدينة ورأوا استحالة خضوع هذه الأسوار لكل آلات الحرب المعروفة آنذاك، فضلًا عن الحاجز المائي المنيع، لم يغير رأيه. بل أمر بحصار دقيق حولها.. وأحاطوها لمدة سنتين " .
والأمر العجيب أن رجال بابل خشوا الخروج من المدينة لفك الحصار تمامًا كما تنبأ أرميا النبي قائلًا " كفَّ جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون. نضبت شجاعتهم صاروا نساء" (ار 51: 30) ويذكر زينوفون المؤرخ أن كورش دعا ملك بابل للمبارزة الفردية فأبى ملك بابل وشجعهم على عدم الخروج من المدينة توفر المياه بها، والأرض الزراعية التي بداخلها، وسعة خزائنها، ولم تعلم أن آخرتها جاءت أمام الرب كما أخبر بذلك أرميا النبي " أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن قد أتت آخرتك" (ار 51: 13).
5- كيف أقتحم كورش مدينة بابل؟ لقد هرب من مدينة بابل رجلان وانضما إلى جيش فارس، فاستعان بهما كورش ووضع خطة لاقتحام المدينة، فطلب كورش من جنوده حفر خندقًا ضخمًا جدًا، وفي الليلة السابقة من تشرين الأول سنة 539 ق.م. تم تحويل مجرى نهر الفرات وتحقَّقت نبؤة ارميا النبي " هكذا قال الرب.. أُنشّف بحرها وأُجفّف ينبوعها" (ار 51: 36) واقتحمت قوات فارس المدينة عبر مجرى النهر الأصلي.
6- كيف تم الهجوم على المدينة الحصينة..؟ في ليلة كان البابليون يقيمون حفلًا لآلهتهم يرقصون ويسكرون ويضحكون على أعدائهم الواقفين عاجزين خارج الأسوار الحصينة دون أن ينتبهوا إلى كورش الذي حوَّل مجرى النهر ويسرع بجيشه الجرار إلى داخل المدينة، وفوجئ أهل بابل بجنود كورش داخل المدينة وداخل البهو الملكي بحسبما صوَّر ارميا النبي من قبل " قد حلف رب الجنود بنفسه أنى لأملأنَّك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليك جلبة" (ار 51: 14) ويقول أشعياء على لسان بابل " امتلأت حقواي وجعًا وأخذني مخاض كمخاض الوالدة. تلَّويت حتى لا أسمع. اندهشت حتى لا أنظر. تاه قلبي بغتني رعب؟ (اش21: 3-4) ويقول هيرودوت بعد أن حفر كورش خندقًا عظيمًا " وإذ أنجز هذا العمل الهندسي العظيم في ليلة كان البابليون غارقين في سكرهم وبطرهم وأفراحهم وَهمًا منهم أن مدينتهم أمنع من عقاب الجو "
7- تنبأ أرميا قائلًا " يركض عدَّاء للقاء عدَّاء. ومخبر للقاء مخبرٍ ليخبر ملك بابل أن مدينته قد أخذت عن أقصى" (ار 51: 31) وفعلًا تمت هذه النبؤة إذ اقتحم جيش كورش مجرى النهر من طرفيه في وقت واحد فركض المخبرون من الجانبين ليخبروا الملك، وكل عدَّاء يخبر عداءًا آخر لتصل الرسالة بأسرع ما يمكن للملك، وأمام قصر الملك التقى المخبران أحدهما جاء من طرف والآخر من الطرف الآخر لمجرى النهر.
8- لو أغلق البابليون أبواب النهر النحاسية قبل هجوم كورش لفشل الهجوم، ولكنها تُرِكت مفتوحة لأنه لم يتوقع أهل بابل أن كورش سيحول مجرى النهر، وبهذا تحققت نبؤة أشعياء النبي عندما قال "لأفتح أمامه (أمام كورش) المصراعين (أبواب القصر)، والأبواب لا تغلق (أبواب النهر النحاسية)" (اش 45:1)
9- قيل أن أهل بابل خشوا طول الحصار فقتلوا في يوم واحد 50000 من نسائهم وأولادهم، وأبقوا عددًا من النساء لعمل الخبز وحمل الماء أثناء الحصار، . ثم اقتحم كورش المدينة وقتل الكثيرين فتحققت نبؤة أشعياء النبي " فيأتي عليك هذان الاثنان بغتة في يوم واحد الثكل والترمل" (اش 47: 9) وحتى أن لم تكن الحادثة الأولى قد حدثت فان جيش فارس قتل الكثيرين من الشباب فتثكلت أمهاتهم، وقتل كثيرًا من الرجال فترملت نساؤهم.
10- حدَّد أشعياء النبي أن الهجوم سيحدث ليلًا وقت احتفال أهل المدينة فقال "ليلة لذتي جعلها لي رعدة. يرتبون المائدة يحرسون الحراسة يأكلون يشربون. قوموا أيها الرؤساء امسحوا المِجَنَّ" (اش 21: 4، 5).
11-وهكذا قتل كورش رؤساء بابل وتحققت النبؤة " سقطت سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة" (اش 21: 9) والأمر المدهش أن أرميا النبي قد أكد نبؤة أشعياء هذه، إذ كتب كل الشرور الآتية على بابل، وأرسل بها سرايا بن نيريا إلى بابل، وأمره أن يقرأ كل هذه الشرور، وأوصاه " ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر إنك تربط به حجرًا وتطرحه إلى وسط الفرات. وتقول هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبهُ عليها" (ار 51: 63-64).
12-الأمر المدهش أن المدينة لم تقم لها قائمة بعد، فكم من المدن تخرَّبت وأعيد تجديدها مثل أورشليم وروما وغيرهما، أما بابل فلم تجدد رغم أن كورش سكن بها وأراد أن يحيها ولكن خلفائه اختاروا غيرها، ورغم أن الإسكندر الأكبر كان يتمنى إعادتها إلى مجدها ولكنه وجد أن التكلفة باهظة، كما تصارع خلفاء الإسكندر وجرت المعارك بينهم على أرض بابل، فنهبتها الجيوش المتحاربة وأكملت خرابها، وعندما صارت من نصيب السلوقيين بنوا مدينة سلوقية شمال بابل بنحو أربعين ميلا فتحولت التجارة إليها وتدهورت بابل إلى الحضيض، وكل هذا جاء تتميمًا للنبؤات، حتى أن أرميا النبي يصف محاولات التجديد هذه وفشلها فيقول "سقطت بابل بغتة وتحطمت ولولوا عليها. خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفى. داوينا بابل فلم تشفى. دعوها ولنذهب كل واحد إلي أرضه لأن قضاءها وصل إلى السماء" (ار51: 8-9).. يا لروعة الوحي.
13- وتحققت النبؤات بأن بابل ستظل خرابًا إلى الأبد لا يسكنها إلاَّ بنات أوى ولا يقيم فيها إعرابي ولا راعى.. لماذا؟ لأنه نتج عن تحويل النهر البرك والمستنقعات، ولم تعد أرضها صالحة للزراعة فلا تنمو فيها حتى الأعشاب التي تجذب الرعاة إليها.. لقد حدث ما صوره أشعياء النبي تمامًا وتصير بابل بهاء الممالك وزينة الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة لا تعمَّر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور ولا يخيم إعرابي ولا يربض هناك رعاة. بل تربض هناك وحوش القفر.. وتصيح بنات آوى في قصورهم.." (اش13: 19-22) وبحسبما تنبأ أرميا النبي أيضًا " وتكون بابل كومًا ومأوى بنات آوى ودهشًا وصفيرًا بلا ساكن.. لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم" (اش 51: 37-43) وبعد أن تهدمت بابل ومع الزمن سقطت أسوارها العظيمة حتى إنه عندما زارها "استرابو " في حكم أوغسطس قيصر (27 ق.م. - 14م) قال "لقد صارت المدينة العظيمة صحراء " .. لقد تحققت النبوات تمامًا "هكذا قال رب الجنود أن أسوار بابل العريضة تُدمَّر تدميرًا وأبوابها الشامخة تُحرَق بالنار" (ار51: 58) وفي سنة 1956 كتب أندريه بارو في كتابه بابل والعهد القديم يقول "فبُعد المدينة قليلًا عن بغداد، ويتدفق إليها كثيرون من السياح كل يوم تقريبًا، وبصورة عامة يخيب ظنهم كثيرًا وبصوت واحد تقريبًا يقولون إنه لا يوجد شيء لرؤيته " وآخر هذه المحاولات ما قام به صدام حسين في منتصف سنة 1980 إذ أراد أن يقيم المدينة ثانية ويجعلها منتجع سياحي، ووضع الخطة كاملة لإقامة الفنادق وإنشاء الشوارع والمتنزهات وكان المال متوفرًا لتنفيذ الخطة، ولكن في شهر سبتمبر من نفس العام اشتعلت الحرب بين العراق وإيران التي استمرت سنوات طويلة، وبعدها حدث غزو العراق للكويت. ثم استرداد الكويت منه، وضربه وفرض الحصار عليه فصارت الخطة في طيّ النسيان.
14- وجاءت أيضًا نبؤة غريبة تنبئ بان أحجار بابل لا تستخدم في مكان آخر للبناء " فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولا حجرًا لأسُس" (ار 51: 6) وقد ذكر ستونر أن الحجارة التي كانت مستخدمة ضخمة، وبذلك تصبح تكلفة نقلها مكلفة جدًا، فلهذا لم تستخدم بينما أُعيد استخدام الطوب في أماكن أخرى
* ختام: اخذ عالم الرياضيات بيتر ستونر 7 نبؤات فقط من النبوات السابقة وطبق عليها نظرية الاحتمالات ليعلم نسبة تحقق هذه النبوات السبع على مدينة بابل بمجرد الصدفة، فوجد النسبة واحد إلى 75 مليون.. حقًا انه مهما طعن النقاد في تاريخ هذه النبوات وقالوا أنها كُتِبت في وقت متأخر بعد خراب بابل فلن يصلوا إلى مبتغاهم ولن يستطيعوا لذلك فكاكا، وذلك لسببين:
أ- أن هذه النبوات التي وردت في سفري أشعياء وأرميا وُجِدت في مخطوطات قمران التي يرجع تاريخها إلى سنة 250 ق.م. كما أن سفري أشعياء وأرميا ترجما إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد ضمن الترجمة السبعينية. إذًا من الثابت أن هذه النبوات ترجع على أقل تقدير إلى ما قبل القرن الثالث قبل الميلاد.
ب- جزم النبوات بأن بابل لن تعمر إلى الأبد، وها قد مرَّ عشرات القرون، وتقف النبوات ضد تعمير بابل كالجبل الشامخ تعظ غير المؤمنين وتناديهم أن يصدقوا الكتاب وكل حرف فيه ويأتوا إلى رب الكتاب حتى ينالوا النهاية الصالحة.
ثانيًا: مدينة بابل:
كانت مدينة بابل سيدة المدائن يقسمها نهر الفرات، وتعتبر حلقة الوصل والمركز التجاري الهام بين الشرق والغرب، بلغت مساحتها 196 ميلًا مربعًا ومحيطها 56 ميلًا، ويحيط بها سوران عظيمان يبلغ ارتفاع السور الخارجي مائة مترًا وعرضه نحو 24 مترًا يكفى لسير ست مركبات حربية متجاورة وعمق أساساته اثني عشر مترًا، وعلى السور 250 برجًا للمراقبة، وبه مائة بوابة من خشب الأرز المغشى بالنحاس اللامع، وسورها الداخلى مبنى بالقوالب الملَّونة التي تمثل مناظر لصيد النمور والأسود، واشتهرت بابل بحدائقها المعلقة إحدى عجائب الدنيا السبع، وتقدمت بابل في العلوم فاخترعت الألف باء للكتابة، وتقدمت في علوم الحساب والهندسة والفلك والفن والعمارة فشيدت أعظم المباني من الطين وأيضا من الحجارة ومن عظمتها خشى هيرودوت Herodotus أن يصفها لئلا يكذّبه الناس، ورغم هذه العظمة فقد تنبأ عنها إشعياء وإرميا بالخراب الأبدي في وصف تفصيلي للغاية ويمكن تتبع النبؤات كالآتي:
1- لم ينس الرب ما فعله نبوخذ نصر إذ خَّرب مدينة أورشليم وسلب الآنية المقدسة وخَّرب الهيكل بالإضافة إلى شرور بابل الأخرى، ولذلك جاءت النبؤة بمعاقبة بابل على شرها " وأكافئ بابل وكل سكان أرض الكلدانيين على شرهم الذي فعلوه في صهيون أمام عيونكم يقول الرب" (ار 51: 24) وتوعدها الله قائلًا "فلو صعدت بابل إلى السماوات ولو حصَّنت علياء عزها فمن عندي يأتي عليها الناهبون يقول الرب" (ار 51:53).
2- حدَّد أشعياء بأن الخراب سيحل ببابل على يد مملكة فارس ومادي فتنبأ قائلًا " قد أعلنت لي رؤيا قاسية الناهب ناهبًا والمُخرِب مخربًا. اصعدي يا عيلام. حاصري يا مادي" (اش 21: 2) فجاءت نبؤة إشعياء على بابل كضرب من الخيال.
3- حدَّد أشعياء اسم الملك "كورش" الذي سيكتسح بابل وسيٌصرِح ببناء أورشليم وتجديد الهيكل "القائل عن كورش راعى فكل مسَّرتي يتمم ويقول عن أورشليم ستٌبنى والهيكل ستؤسَّس" (اش 44: 28).
4- يصف هيرودتس حصار المدينة فيقول "وهكذا زحف الماديون والفارسيون على بابل بزعامة كورش وعندما طاف كورش وكبار قواده حول المدينة ورأوا استحالة خضوع هذه الأسوار لكل آلات الحرب المعروفة آنذاك، فضلًا عن الحاجز المائي المنيع، لم يغير رأيه. بل أمر بحصار دقيق حولها.. وأحاطوها لمدة سنتين " .
والأمر العجيب أن رجال بابل خشوا الخروج من المدينة لفك الحصار تمامًا كما تنبأ أرميا النبي قائلًا " كفَّ جبابرة بابل عن الحرب وجلسوا في الحصون. نضبت شجاعتهم صاروا نساء" (ار 51: 30) ويذكر زينوفون المؤرخ أن كورش دعا ملك بابل للمبارزة الفردية فأبى ملك بابل وشجعهم على عدم الخروج من المدينة توفر المياه بها، والأرض الزراعية التي بداخلها، وسعة خزائنها، ولم تعلم أن آخرتها جاءت أمام الرب كما أخبر بذلك أرميا النبي " أيتها الساكنة على مياه كثيرة الوافرة الخزائن قد أتت آخرتك" (ار 51: 13).
5- كيف أقتحم كورش مدينة بابل؟ لقد هرب من مدينة بابل رجلان وانضما إلى جيش فارس، فاستعان بهما كورش ووضع خطة لاقتحام المدينة، فطلب كورش من جنوده حفر خندقًا ضخمًا جدًا، وفي الليلة السابقة من تشرين الأول سنة 539 ق.م. تم تحويل مجرى نهر الفرات وتحقَّقت نبؤة ارميا النبي " هكذا قال الرب.. أُنشّف بحرها وأُجفّف ينبوعها" (ار 51: 36) واقتحمت قوات فارس المدينة عبر مجرى النهر الأصلي.
6- كيف تم الهجوم على المدينة الحصينة..؟ في ليلة كان البابليون يقيمون حفلًا لآلهتهم يرقصون ويسكرون ويضحكون على أعدائهم الواقفين عاجزين خارج الأسوار الحصينة دون أن ينتبهوا إلى كورش الذي حوَّل مجرى النهر ويسرع بجيشه الجرار إلى داخل المدينة، وفوجئ أهل بابل بجنود كورش داخل المدينة وداخل البهو الملكي بحسبما صوَّر ارميا النبي من قبل " قد حلف رب الجنود بنفسه أنى لأملأنَّك أناسًا كالغوغاء فيرفعون عليك جلبة" (ار 51: 14) ويقول أشعياء على لسان بابل " امتلأت حقواي وجعًا وأخذني مخاض كمخاض الوالدة. تلَّويت حتى لا أسمع. اندهشت حتى لا أنظر. تاه قلبي بغتني رعب؟ (اش21: 3-4) ويقول هيرودوت بعد أن حفر كورش خندقًا عظيمًا " وإذ أنجز هذا العمل الهندسي العظيم في ليلة كان البابليون غارقين في سكرهم وبطرهم وأفراحهم وَهمًا منهم أن مدينتهم أمنع من عقاب الجو "
7- تنبأ أرميا قائلًا " يركض عدَّاء للقاء عدَّاء. ومخبر للقاء مخبرٍ ليخبر ملك بابل أن مدينته قد أخذت عن أقصى" (ار 51: 31) وفعلًا تمت هذه النبؤة إذ اقتحم جيش كورش مجرى النهر من طرفيه في وقت واحد فركض المخبرون من الجانبين ليخبروا الملك، وكل عدَّاء يخبر عداءًا آخر لتصل الرسالة بأسرع ما يمكن للملك، وأمام قصر الملك التقى المخبران أحدهما جاء من طرف والآخر من الطرف الآخر لمجرى النهر.
8- لو أغلق البابليون أبواب النهر النحاسية قبل هجوم كورش لفشل الهجوم، ولكنها تُرِكت مفتوحة لأنه لم يتوقع أهل بابل أن كورش سيحول مجرى النهر، وبهذا تحققت نبؤة أشعياء النبي عندما قال "لأفتح أمامه (أمام كورش) المصراعين (أبواب القصر)، والأبواب لا تغلق (أبواب النهر النحاسية)" (اش 45:1)
9- قيل أن أهل بابل خشوا طول الحصار فقتلوا في يوم واحد 50000 من نسائهم وأولادهم، وأبقوا عددًا من النساء لعمل الخبز وحمل الماء أثناء الحصار، . ثم اقتحم كورش المدينة وقتل الكثيرين فتحققت نبؤة أشعياء النبي " فيأتي عليك هذان الاثنان بغتة في يوم واحد الثكل والترمل" (اش 47: 9) وحتى أن لم تكن الحادثة الأولى قد حدثت فان جيش فارس قتل الكثيرين من الشباب فتثكلت أمهاتهم، وقتل كثيرًا من الرجال فترملت نساؤهم.
10- حدَّد أشعياء النبي أن الهجوم سيحدث ليلًا وقت احتفال أهل المدينة فقال "ليلة لذتي جعلها لي رعدة. يرتبون المائدة يحرسون الحراسة يأكلون يشربون. قوموا أيها الرؤساء امسحوا المِجَنَّ" (اش 21: 4، 5).
11-وهكذا قتل كورش رؤساء بابل وتحققت النبؤة " سقطت سقطت بابل وجميع تماثيل آلهتها المنحوتة" (اش 21: 9) والأمر المدهش أن أرميا النبي قد أكد نبؤة أشعياء هذه، إذ كتب كل الشرور الآتية على بابل، وأرسل بها سرايا بن نيريا إلى بابل، وأمره أن يقرأ كل هذه الشرور، وأوصاه " ويكون إذا فرغت من قراءة هذا السفر إنك تربط به حجرًا وتطرحه إلى وسط الفرات. وتقول هكذا تغرق بابل ولا تقوم من الشر الذي أنا جالبهُ عليها" (ار 51: 63-64).
12-الأمر المدهش أن المدينة لم تقم لها قائمة بعد، فكم من المدن تخرَّبت وأعيد تجديدها مثل أورشليم وروما وغيرهما، أما بابل فلم تجدد رغم أن كورش سكن بها وأراد أن يحيها ولكن خلفائه اختاروا غيرها، ورغم أن الإسكندر الأكبر كان يتمنى إعادتها إلى مجدها ولكنه وجد أن التكلفة باهظة، كما تصارع خلفاء الإسكندر وجرت المعارك بينهم على أرض بابل، فنهبتها الجيوش المتحاربة وأكملت خرابها، وعندما صارت من نصيب السلوقيين بنوا مدينة سلوقية شمال بابل بنحو أربعين ميلا فتحولت التجارة إليها وتدهورت بابل إلى الحضيض، وكل هذا جاء تتميمًا للنبؤات، حتى أن أرميا النبي يصف محاولات التجديد هذه وفشلها فيقول "سقطت بابل بغتة وتحطمت ولولوا عليها. خذوا بلسانًا لجرحها لعلها تشفى. داوينا بابل فلم تشفى. دعوها ولنذهب كل واحد إلي أرضه لأن قضاءها وصل إلى السماء" (ار51: 8-9).. يا لروعة الوحي.
13- وتحققت النبؤات بأن بابل ستظل خرابًا إلى الأبد لا يسكنها إلاَّ بنات أوى ولا يقيم فيها إعرابي ولا راعى.. لماذا؟ لأنه نتج عن تحويل النهر البرك والمستنقعات، ولم تعد أرضها صالحة للزراعة فلا تنمو فيها حتى الأعشاب التي تجذب الرعاة إليها.. لقد حدث ما صوره أشعياء النبي تمامًا وتصير بابل بهاء الممالك وزينة الكلدانيين كتقليب الله سدوم وعمورة لا تعمَّر إلى الأبد ولا تسكن إلى دور فدور ولا يخيم إعرابي ولا يربض هناك رعاة. بل تربض هناك وحوش القفر.. وتصيح بنات آوى في قصورهم.." (اش13: 19-22) وبحسبما تنبأ أرميا النبي أيضًا " وتكون بابل كومًا ومأوى بنات آوى ودهشًا وصفيرًا بلا ساكن.. لا يسكن فيها إنسان ولا يعبر فيها ابن آدم" (اش 51: 37-43) وبعد أن تهدمت بابل ومع الزمن سقطت أسوارها العظيمة حتى إنه عندما زارها "استرابو " في حكم أوغسطس قيصر (27 ق.م. - 14م) قال "لقد صارت المدينة العظيمة صحراء " .. لقد تحققت النبوات تمامًا "هكذا قال رب الجنود أن أسوار بابل العريضة تُدمَّر تدميرًا وأبوابها الشامخة تُحرَق بالنار" (ار51: 58) وفي سنة 1956 كتب أندريه بارو في كتابه بابل والعهد القديم يقول "فبُعد المدينة قليلًا عن بغداد، ويتدفق إليها كثيرون من السياح كل يوم تقريبًا، وبصورة عامة يخيب ظنهم كثيرًا وبصوت واحد تقريبًا يقولون إنه لا يوجد شيء لرؤيته " وآخر هذه المحاولات ما قام به صدام حسين في منتصف سنة 1980 إذ أراد أن يقيم المدينة ثانية ويجعلها منتجع سياحي، ووضع الخطة كاملة لإقامة الفنادق وإنشاء الشوارع والمتنزهات وكان المال متوفرًا لتنفيذ الخطة، ولكن في شهر سبتمبر من نفس العام اشتعلت الحرب بين العراق وإيران التي استمرت سنوات طويلة، وبعدها حدث غزو العراق للكويت. ثم استرداد الكويت منه، وضربه وفرض الحصار عليه فصارت الخطة في طيّ النسيان.
14- وجاءت أيضًا نبؤة غريبة تنبئ بان أحجار بابل لا تستخدم في مكان آخر للبناء " فلا يأخذون منك حجرًا لزاوية ولا حجرًا لأسُس" (ار 51: 6) وقد ذكر ستونر أن الحجارة التي كانت مستخدمة ضخمة، وبذلك تصبح تكلفة نقلها مكلفة جدًا، فلهذا لم تستخدم بينما أُعيد استخدام الطوب في أماكن أخرى
* ختام: اخذ عالم الرياضيات بيتر ستونر 7 نبؤات فقط من النبوات السابقة وطبق عليها نظرية الاحتمالات ليعلم نسبة تحقق هذه النبوات السبع على مدينة بابل بمجرد الصدفة، فوجد النسبة واحد إلى 75 مليون.. حقًا انه مهما طعن النقاد في تاريخ هذه النبوات وقالوا أنها كُتِبت في وقت متأخر بعد خراب بابل فلن يصلوا إلى مبتغاهم ولن يستطيعوا لذلك فكاكا، وذلك لسببين:
أ- أن هذه النبوات التي وردت في سفري أشعياء وأرميا وُجِدت في مخطوطات قمران التي يرجع تاريخها إلى سنة 250 ق.م. كما أن سفري أشعياء وأرميا ترجما إلى اليونانية في القرن الثالث قبل الميلاد ضمن الترجمة السبعينية. إذًا من الثابت أن هذه النبوات ترجع على أقل تقدير إلى ما قبل القرن الثالث قبل الميلاد.
ب- جزم النبوات بأن بابل لن تعمر إلى الأبد، وها قد مرَّ عشرات القرون، وتقف النبوات ضد تعمير بابل كالجبل الشامخ تعظ غير المؤمنين وتناديهم أن يصدقوا الكتاب وكل حرف فيه ويأتوا إلى رب الكتاب حتى ينالوا النهاية الصالحة.
0 التعليقات:
التعبيرات